الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).
.سورة ق: .تفسير الآيات (1- 22): {ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)}الكلام في {ق والقرءان المجيد بَلْ عَجِبُوآ} كالكلام في {ص والقرءان ذِى الذكر بَلِ الذين كَفَرُواْ} سواء بسواء لالتقائهما في أسلوب واحد. والمجيد ذو المجد والشرف على غيره من الكتب ومن أحاط علماً بمعانيه وعمل بما فيه مجد عند الله وعند الناس. وقوله {بَلْ عَجِبُواْ} أي كفار مكة {أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} أي محمد صلى الله عليه وسلم إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب وهو أن ينذرهم بالمخوف رجل منهم قد عرفوا عدالته وأمانته، ومن كان كذلك لم يكن إلا ناصحاً لقومه خائفاً أن ينالهم مكروه، وإذا علم أن مخوفاً أظلهم لزمه أن ينذرهم فكيف بما هو غاية المخاوف وإنكار لتعجبهم مما أنذرهم به من البعث مع علمهم بقدرة الله تعالى على خلق السماوات والأرض وما بينهما، وعلى اختراع كل شيء وإقرارهم بالنشأة الأولى مع شهادة العقل بأنه لابد من الجزاء؟ ثم عول على أحد الإنكارين بقوله {فَقَالَ الكافرون هذا شَئ عَجِيبٌ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} دلالة على أن تعجبهم من البعث أدخل في الاستبعاد وأحق بالإنكار. وضع الكافرون موضع الضمير للشهادة على أنهم في قولهم هذا مقدمون على الكفر العظيم، وهذا إشارة إلى الرجع. و(إذا) منصوب بمضمر معناه أحين نموت ونبلى نرجع. {مِتْنَا} نافع وعلي وحمزة وحفص {ذلك رَجْعُ بَعِيدٌ} مستبعد مستنكر كقولك (هذا قول بعيد) أي بعيد من الوهم والعادة. ويجوز أن يكون الرجع بمعنى المرجوع وهو الجواب، ويكون من كلام الله تعالى استبعاداً لإنكارهم ما أنذروا به من البعث، والوقف على {ترابا} على هذا حسن، وناصب الظرف إذا كان الرجع بمعنى المرجوع ما دل عليه المنذر من المنذر به وهو البعث {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ} رد لاستبعادهم الرجع لأن من لطف علمه حتى علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى وتأكله من لحومهم وعظامهم كان قادراً على رجعهم أحياء كما كانوا {وَعِندَنَا كتاب حَفِيظٌ} محفوظ من الشياطين ومن التغير وهو اللوح المحفوظ، أو حافظ لما أودعه وكتب فيه {بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ} إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر {فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ} مضطرب. يقال: مرج الخاتم في الإصبع إذا اضطرب من سعته فيقولون تارة شاعر وطوراً ساحر ومرة كاهن لا يثبتون على شيء واحد. وقيل: الحق القرآن. وقيل: الإخبار بالبعث.ثم دلهم على قدرته على البعث فقال: {أَفَلَمْ يَنظُرُوآ} حين كفروا بالبعث {إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ} إلى آثار قدرة الله تعالى في خلق العالم {كَيْفَ بنيناها} رفعناها بغير عمد {وزيناها} بالنيرات {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} من فتوق وشقوق أي أنها سليمة من العيوب لا فتق فيها ولا صدع ولا خلل {والأرض مددناها} دحوناها {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي} جبالاً ثوابت لولا هي لمالت {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ} صنف {بَهِيجٍ} يبتهج به لحسنه {تَبْصِرَةً وذكرى} لنبصر به ونذكر {لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} راجع إلى ربه مفكر في بدائع خلقه.{وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مباركا} كثير المنافع {فَأَنبَتْنَا بِهِ جنات وَحَبَّ الحصيد} أي وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالحنطة والشعير وغيرهما {والنخل باسقات} طوالاً في السماء {لَّهَا طَلْعٌ} هو كل ما يطلع من ثمر النخيل {نَّضِيدٌ} منضود بعضه فوق بعض لكثرة الطلع وتراكمه أو لكثرة ما فيه من الثمر {رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ} أي أنبتناها رزقاً للعباد لأن الإنبات في معنى الرزق فيكون {رِزْقاً} مصدراً من غير لفظه، أو هو مفعول له أي أنبتناها لرزقهم {وَأَحْيَيْنَا بِهِ} بذلك الماء {بَلْدَةً مَّيْتاً} قد جف نباتها {كذلك الخروج} أي كما حييت هذه البلدة الميتة كذلك تخرجون أحياء بعد موتكم لأن إحياء الموات كإحياء الأموات، والكاف في محل الرفع على الابتداء.{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} قبل قريش {قَوْمُ نُوحٍ وأصحاب الرس} هو بئر لم تطو وهم قوم باليمامة وقيل أصحاب الأخدود {وَثَمُودُ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ} أراد بفرعون قومه كقوله {مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ} [يونس: 83] لأن المعطوف عليه قوم نوح والمعطوفات جماعات {وإخوان لُوطٍ وأصحاب الأيكة} سماهم إخوانه لأن بينهم وبينه نسباً قريباً {وَقَوْمُ تُّبَّعٍ} هو ملك باليمن أسلم ودعا قومه إلى الإسلام فكذبوه وسمي به لكثرة تبعه {كُلٌّ} أي كل واحد منهم {كَذَّبَ الرسل} لأن من كذب رسولاً واحداً فقد كذب جميعهم {فَحَقَّ وَعِيدِ} فوجب وحل وعيدي وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد لهم {أَفَعَيِينَا} عيي بالأمر إذا لم يهتد لوجه عمله والهمزة للإنكار {بالخلق الأول} أي أنا لم نعجز عن الخلق الأول فكيف نعجز عن الثاني والاعتراف بذلك اعتراف بالإعادة {بَلْ هُمْ في لَبْسٍ} في خلط وشبهة قد لبس عليهم الشيطان وحيرهم وذلك تسويله إليهم أن إحياء الموتى أمر خارج عن العادة فتركوا لذلك الاستدلال الصحيح وهو أن من قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر {مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} بعد الموت. وإنما نكر الخلق الجديد ليدل على عظمة شأنه وأن حق من سمع به أن يخاف ويهتم به.{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} الوسوسة الصوت الخفي ووسوسة النفس ما يخطر ببال الإنسان ويهجس في ضميره من حديث النفس، والباء مثلها في قوله (صوت بكذا) {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} المراد قرب علمه منه {مِنْ حَبْلِ الوريد} هو مثل في فرط القرب، والوريد عرق في باطن العنق، والحبل العرق، والإضافة للبيان كقولهم (بعير سانية) {إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان} يعني الملكين الحافظين {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} التلقي التلقن بالحفظ والكتابة والقعيد والمقاعد بمعنى المجالس وتقديره عن اليمين قعيد وعن الشمال من المتلقيين فترك أحدهما لدلالة الثاني عليه كقوله:أي رماني بأمر كنت منه بريئاً وكان والدي منه بريئاً. و(إذ) منصوب بأقرب لما فيه من معنى يقرب، والمعنى إنه لطيف يتوصل علمه إلى خطرات النفس ولا شيء أخفى منه وهو أقرب من الإنسان من كل قريب حين يتلقى الحفيظان ما يتلفظ به إيذاناً بأن استحفاظ الملكين أمر هو غني عنه، وكيف لا يستغني عنه وهو مطلع على أخفى الخفيات؟ وإنما ذلك لحكمة وهو ما في كتبة الملكين وحفظهما وعرض صحائف العمل يوم القيامة من زيادة لطف له في الانتهاء عن السيئات والرغبة في الحسنات.{مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} ما يتكلم به وما يرمي به من فيه {إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ} حافظ {عَتِيدٌ} حاضر. ثم قيل: يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه. وقيل: لا يكتبان إلا ما فيه أجر أو وزر. وقيل: إن الملكين لا يجتنبانه إلا عند الغائط والجماع. لما ذكر إنكارهم البعث واحتج عليهم بقدرته وعلمه أعلمهم أن ما أنكروه هم لاقوه عن قريب عند موتهم وعند قيام الساعة، ونبه على اقتراب ذلك بأن عبر عنه بلفظ الماضي وهو قوله {وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} أي شدته الذاهبة بالعقل ملتبسة {بالحق} أي بحقيقة الأمر أو بالحكمة {ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ} الإشارة إلى الموت والخطاب للإنسان في قوله {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} على طريق الالتفات {تَحِيدُ} تنفر وتهرب {وَنُفِخَ في الصور} يعني نفخة البعث {ذَلِكَ يَوْمَ الوعيد} أي وقت ذلك يوم الوعيد على حذف المضاف والإشارة إلى مصدر نفخ {وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} أي ملكان أحدهما يسوقه إلى المحشر والآخر يشهد عليه بعمله، ومحل {مَّعَهَا سَائِقٌ} النصب على الحال من {كُلٌّ} لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة {لَّقَدْ كُنتَ} أي يقال لها لقد كنت {فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هذا} النازل بك اليوم {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ} أي فأزلنا غفلتك بما تشاهده {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} جعلت الغفلة كأنها غطاء غطي به جسده كله أو غشاوة غطي بها عينيه فهو لا يبصر شيئاً، فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت عنه الغفلة وغطاؤها فيبصر ما لم يبصره من الحق، ورجع بصره الكليل عن الإبصار لغفلته حديداً لتيقظه. .تفسير الآيات (23- 45): {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)}{وَقَالَ قَرِينُهُ} الجمهور على أنه الملك الكاتب الشهيد عليه {هذا} أي ديوان عمله، مجاهد: شيطانه الذي قيض له في قوله {نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]. هذا أي الذي وكلت به {مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ} {هذا} مبتدأ و{مَا} نكرة بمعنى شيء والظرف بعده وصف له وكذلك {عَتِيدٌ} و{مَا} وصفتها خبر {هذا} والتقدير هذا شيء ثابت لديّ عتيد. ثم يقول الله تعالى: {أَلْقِيَا} والخطاب للسائق والشهيد أو لمالك، وكأن الأصل ألقِ ألقِ فناب ألقيا عن ألق ألق لأن الفاعل كالجزء من الفعل فكانت تثنية الفاعل نائبة عن تكرار الفعل. وقيل: أصله ألقين والألف بدل من النون إجراء للوصل مجرى الوقف دليله قراءة الحسن {ألقين} {فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ} بالنعم والمنعم {عَنِيدٍ} معاند مجانب للحق معاد لأهله {مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ} كثير المنع للمال عن حقوقه أو مناع لجنس الخير أن يصل إلى أهله {مُعْتَدٍ} ظالم متخط للحق {مُرِيبٍ} شاك في الله وفي دينه {الذى جَعَلَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ} مبتدأ متضمن معنى الشرط خبره {فألقياه في العذاب الشديد} أو بدل من {كُلَّ كَفَّارٍ} و{فألقياه} تكرير للتوكيد ولا يجوز أن يكون صفة ل {كَفَّار} لأن النكرة لا توصف بالموصول.{قَالَ قرِينُهُ} أي شيطانه الذي قرن به وهو شاهد لمجاهد، وإنما أخليت هذه الجملة عن الواو دون الأولى لأن الأولى واجب عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول أعني مجيء كل نفس مع الملكين وقول قرينه ما قال له، وأما هذه فهي مستأنفة كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول كما في مقاولة موسى وفرعون، فكأن الكافر قال رب هو أطغاني فقال قرينه {رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ ولكن كَانَ في ضلال بَعِيدٍ} أي ما أوقعته في الطغيان ولكنه طغى واختار الضلالة على الهدى {قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ} هو استئناف مثل قوله تعالى: {قَالَ قرِينُهُ} كأن قائلاً قال: فماذا قال الله؟ فقيل: قال لا تختصموا {لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد} أي لا تختصموا في دار الجزاء وموقف الحساب فلا فائدة في اختصامكم ولا طائل تحته وقد أوعدتكم بعذابي على الطغيان في كتبي وعلى ألسنة رسلي فما تركت لكم حجة عليّ. والباء في {بالوعيد} مزيدة كما في قوله {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] أو معدية على أن قدم مطاوع بمعنى تقدم {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ} أي لا تطمعوا أن أبدل قولي ووعيدي بإدخال الكفار في النار {وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ} فلا أعذب عبداً بغير ذنب.وقال: {بظلام} على لفظ المبالغة لأنه من قولك هو ظالم لعبده وظلام لعبيده {يَوْمَ} نصب ب {ظلام} أو بمضمر هو اذكر وأنذر {نَّقُولُ} نافع وأبو بكر أي يقول الله {لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} وهو مصدر كالمجيد أي أنها تقول بعد امتلائها هل من مزيد أي هل بقي فيّ موضع لم يمتليء يعني قد امتلأت، أو أنها تستزيد وفيها موضع للمزيد وهذا على تحقيق القول من جهنم وهو غير مستنكر كإنطاق الجوارح، والسؤال لتوبيخ الكفرة لعلمه تعالى بأنها امتلأت أم لا.{وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} غير نصب على الظرف أي مكاناً غير بعيد، أو على الحال وتذكيره لأنه على زنة المصدر كالصليل والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث، أو على حذف الموصوف أي شيئاً غير بعيد ومعناه التوكيد كما تقول: هو قريب غير بعيد وعزيز غير ذليل {هذا} مبتدأ وهو إشارة إلى الثواب أو إلى مصدر أزلفت {مَّا تُوعَدُونَ} صفته وبالياء: مكي {لِكُلِّ أَوَّابٍ} رجاع إلى ذكر الله خبره {حَفِيظٍ} حافظ لحدوده جاء في الحديث: «من حافظ على أربع ركعات في أول النهار كان أواباً حفيظاً» {مَّنْ} مجرور المحل بدل من {أَوَّاب} أو رفع بالابتداء وخبره {ادخلوها} على تقدير يقال لهم ادخولها بسلام لأن (من) في معنى الجمع {خَشِىَ الرحمن} الخشية انزعاج القلب عند ذكر الخطيئة، وقرن بالخشية اسمه الدال على سعة الرحمة للثناء البليغ على الخاشي وهو خشيته مع علمه أنه الواسع الرحمة كما أثنى عليه بأنه خاشٍ مع أن المخشي منه غائب {بالغيب} حال من المفعول أي خشيه وهو غائب، أو صفة لمصدر خشي أي خشيه خشية ملتبسة بالغيب حيث خشي عقابه وهو غائب. الحسن: إذا أغلق الباب وأرخى الستر {وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} راجع إلى الله. وقيل: بسريرة مرضية وعقيدة صحيحة {ادخلوها بِسَلامٍ} أي سالمين من زوال النعم وحلول النقم {ذلك يَوْمُ الخلود} أي يوم تقدير الخلود كقوله {فادخلوها خالدين} [الزمر: 73] أي مقدرين الخلود {لَهُم مَّا يَشَآءَونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} على ما يشتهون، والجمهور على أنه رؤية الله تعالى بلا كيف.{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} قبل قومك {مِّن قَرْنٍ} من القرون الذين كذبوا رسلهم {هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم} من قومك {بَطْشاً} قوة وسطوة {فَنَقَّبُواْ} فخرقوا {فِى البلاد} وطافوا. والتنقيب التنقير عن الأمر والبحث والطلب، ودخلت الفاء للتسبيب عن قوله {هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً} أي شدة بطشهم أقدرتهم على التنقيب وقوّتهم عليه، ويجوز أن يراد فنقب أهل مكة في أسفارهم ومسايرهم في بلاد القرون فهل رأوا لهم محيصاً حتى يؤملوا مثله لأنفسهم، ويدل عليه قراءة من قرأ {فَنَقِّبُواْ} على الأمر {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} مهرب من الله أو من الموت.{إِنَّ في ذلك} المذكور {لِذِكْرِى} تذكرة وموعظة {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} واعٍ لأن من لا يعي قلبه فكأنه لا قلب له {أَوْ أَلْقَى السمع} أصغى إلى المواعظ {وَهُوَ شَهِيدٌ} حاضر بفطنته لأن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} إعياء، قيل: نزلت في اليهود لعنت تكذيباً لقولهم خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش وقالوا: إن الذي وقع من التشبيه في هذه الأمة إنما وقع من اليهود ومنهم أخذ. وأنكر اليهود التربيع في الجلوس وزعموا أنه جلس تلك الجلسة يوم السبت {فاصبر على مَا يَقُولُونَ} أي على ما يقول اليهود ويأتون به من الكفر والتشبيه، أو على ما يقول المشركون في أمر البعث فإن من قدر على خلق العالم قدر على بعثهم والانتقام منه {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} حامداً ربك، والتسبيح محمول على ظاهره أو على الصلاة فالصلاة {قَبْلَ طُلُوعِ الشمس} الفجر {وَقَبْلَ الغروب} الظهر والعصر {وَمِنَ اليل فَسَبِّحْهُ} العشاءان أو التهجد {وأدبار السجود} التسبيح في آثار الصلوات والسجود والركوع يعبر بهما عن الصلاة. وقيل: النوافل بعد المكتوبات أو الوتر بعد العشاء والأدبار جمع دبر، {وإدبار} حجازي وحمزة وخلف من أدبرت الصلاة إذا انقضت وتمت، ومعناه وقت انقضاء السجود كقولهم (آتيك خفوق النجم). {واستمع} لما أخبرك به من حال يوم القيامة وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به وقد وقف يعقوب عليه. وانتصب {يَوْمَ يُنَادِ المناد} بما دل عليه {ذَلِكَ يَوْمُ الخروج} أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور. وقيل: تقديره واستمع حديث يوم ينادي المنادي. {المنادي} بالياء في الحالين: مكي وسهل ويعقوب، وفي الوصل: مدني وأبو عمرو، وغيرهم بغير ياء فيهما. والمنادي إسرافيل ينفخ في الصور وينادي: أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. وقيل: إسرافيل ينفخ وجبريل ينادي بالحشر {مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} من صخرة بيت المقدس وهي أقرب من الأرض إلى السماء باثني عشر ميلاً وهي وسط الأرض.{يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصيحة} بدل من {يَوْمٍ يُنَادِى}. الصيحة النفخة الثانية {بالحق} متعلق ب {الصيحة} والمراد به البعث والحشر للجزاء {ذلك يَوْمُ الخروج} من القبور {إِنَّا نَحْنُ نُحْيىِ} الخلق {وَنُمِيتُ} أي نميتهم في الدنيا {وَإِلَيْنَا المصير} أي مصيرهم {يَوْمَ تَشَقَّقُ} بالتخفيف: كوفي وأبو عمرو، وغيرهم بالتشديد {الأرض عَنْهُمْ} أي تتصدع الأرض فتخرج الموتى من صدوعها {سِرَاعاً} حال من المجرور أي مسرعين {ذلك حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} هين.وتقديم الظرف يدل على الاختصاص أي لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم إلا على القادر الذي لا يشغله شأن عن شأن {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} فيك وفينا تهديد لهم وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} كقوله {بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] أي ما أنت بمسلط عليهم إنما أنت داعٍ وباعث. وقيل: هو من جبره على الأمر بمعنى أجبره أي ما أنت بوال عليهم تجبرهم على الإيمان {فَذَكِّرْ بالقرءان مَن يَخَافُ وَعِيدِ} كقوله: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها} [النازعات: 45]. لأنه لا ينفع إلا فيه والله أعلم.
|